كنْز غالي الثمن، بل لا يوجد ما هو أغلى منه، القلوب به متعلقة، والنفوس
إليه متشوقة، والعقول فيه مفكّرة، والبشر عنه يبحثون، وإليه يلهثون وفيه
يتنافسون، ولكن كثير من الناس منه محرمون، وعنه بعيدون، فما هو هذا الكنز
المفقود ؟
كل إنسان يبحث عن السعادة العظمى والثروة الكبرى، ويفتش عن
الطمأنينة المستقرة والراحة المستمرة؟ أليس كل أحد يرغب في أن يملأ السرور
قلبه، وأن تغمر البهجة نفسه وأن تعلوا البسمة وجهه؟
إلى كل الباحثين عن السعادة أقول: إنها تنبع من الداخل، ولا تستجلب من الخارج.
إن
منبع السعادة في هذا الدين العظيم، يشعر بها المؤمن الصادق والمسلم المخلص
صاحب الكلمة الذاكرة والدمعة الخاشعة والجبهة الساجدة... إنه المؤمن
الموصول بالله.
إن اللذة والسعادة تكمن في الإيمان، والسعي لنيل رضى
الرحمن ، وعبادة الملك الديّان. فلننظر إلى هذه اللذة التي ذاقها
المؤمنون، وعلّمها للناس الأنبياء والمرسلون، واقتطف ثمارها وتمتع
بأذواقها عباد الله الصالحون.
معالم على طريق السعادة: وحدة وقوة التعلّق:
إن
أعظم منن الله ونعمه على العبد الإيمان والتوحيد الذي يربطه بالله وحده
لتكون حياته كلها لله سبحانه وتعالى {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي
وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. { لاَ شَرِيكَ لَهُ
وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [ الأنعام: 163 –
162 ] ، وتتضح غايته في الحياة {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ
إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}
[ الذاريات: 56 ] ، ما أعظم أن يكون العبد الضعيف الفقير العاجز مرتبطاً
بالله القوي الغني القاهر، الله الذي لا منتهى لكماله، ولا نهاية لجلاله،
إنه حينئذ يرتبط بالسماء، يرتبط بنور الوحي الذي يعطي لهذه الروح غذاءها
الذي جعله الله في الإيمان الحق الذي يجد فيه المؤمن اللذة والحلاوة
والمتعة والسعادة وطمأنينة القلب وسكينة النفس، كما قال رسولنا الأمين صلى
الله عليه وسلم : ( ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربً وبالإسلام ديناً وبمحمدً صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً )
(رواه مسلم/رقم34). إنها وجهة واحدة عظيمة عظمة كتناهية، لا أهواء متعددة،
ومقاصد متباينة تحير العقل وتكدر الخاطر وتغم القلب والنفس.
ما أعظم
هذا الاستقرار والسكينة عندما يخضع المؤمن لإله واحد بينما غيره من الناس
يخضعون لقوى البشر يخشون منها ضراً أو يرجون منها نفعاً، بينما المؤمن حر
طليق لا تعلق له ولا تعبد إلا لله وحده، صلته بالله وحده حبّا له وخشية
منه، وإنابة إليه، وتوكلاً عليه.
وحدة وعظمة التألق:
الناس
يبحثون عن قدوات عظيمة يقلدونها ونماذج بشرية يتبعونها بينما المؤمن قدوته
العظمى وأسوته المثلى رسول الله صلى الله عليه وسلم {لَقَدْ
كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو
اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}
(الأحزاب: 21 ) فتتوحد الوجهة وتتفرد القدوة ويتجلى الصراط المستقيم
فتنسكب الطمأنينة في القلب، قدوة اجتمع فيها ما تفرق من الكمال البشري،
نظرات عقله راجحة، وأساليب دعوته حكيمة، وحسن معاملته عظيمة، رحمته غامرة،
وهيبته حاضرة، وسماحته ظاهرة، هو الزوج الكريم والأب الرحيم والقائد القوي
والصديق والششجاع الكمي، والمخطط العبقري، والمعلم التربوي، والرائد
الحضاري، والرجل الإنساني، قدوة شاملة كاملة معصومة. ما أعظمها من قدوة
وما أحلاها من لذة لمن يعيش معها ويرتبطبها إنه إذن لن يفارقها، كما أخبر
صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله: (ثلاث من كن فيه
وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء
لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار)
[ صحيح البخاري رقم(16، صحيح مسلم،رقم43 ] هذه المشاعر الفياضة من المحبة
والميل العاطفي يغذيها الإيمان وينميها ويجعلها متعةً ولذة في هذه الحياة،
مما جعل سلف الأمة يقولون عندما تذوقوا هذه الحلاوة " والله إنا لفي لذة
لو علمها الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليها بالسيوف " ، لقد ذاقوا طعم
الصلة بالله سبحانه وتعالى فلم تتعلق قلوبهم بسواه، وارتبطت حياتهم كلها
عملاً وطموحاً برسول الله فلم تكن لهم قدوة سواه، فتحققت لهم منح ربانية
عظيمة يخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: ( إن
الله إذا أحب عبداً دعا جبريل فقال إني أحب فلاناً فأحبه قال فيحبه جبريل
ثم ينادي في السماء فيقول إن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء قال
ثم يوضع له القبول في الأرض ) [ صحيح مسلم2637 ] ، فإذا رأيت
القلوب تهفو إليك والأيدي تصافحك، والوجوه تبتسم لك و العيون تنظر إليك
نظرة المحبة، فاعلم أنها لغة الحب الإيماني وكلمات الشعور القلبي التي
تتحقق بها السعادة وأن هذه الآثار هي ثمرات الإيمان انعكست في حياتك
طمأنينة وسعادة وهناء.
ولقد
ادرك الحسن البصري أثر الصلة بالله تعالى على حياة العبد وسعادته فقال حين
سئل: ( ما بال أهل الليل على وجوههم نور؟ قال: خلوا إلى ربهم فألبسهم من
نوره سبحانه وتعالى)
ولذلك تجد المؤمن في خضم المحن وشدة الابتلاء ساكن النفس مطمئن البال،
واثقاً بوعد الله عز وجل ونصره سبحانه وتعالى كما قال صلى الله عليه وسلم
لأبي
بكر ( ما ظنك باثنين الله ثالثهما ) ، وكما قال موسى لقومه حين قالوا له {
إنا لمدركون } { قال كلا إن معي ربي سيهدين } وكما أخبر الله تعالى عن
النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: {الَّذِينَ
قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ
فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ
وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ
لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو
فَضْلٍ عَظِيمٍ } [ آل عمران: 173-174 ] ، فما أعظم هذه الطمأنينة المنسكبة في القلب لا يكون معها خوف مقلق ولا ألم محزن.
الصلة بالله أفراح وأشواق:
عندما يتعلق قلب المؤمن بالله ويتصل به، يجد في قلبه فرحاً بفضله وشوقاً للقائه، ولسان حاله كما قال الشاعر:
فليتك تحلو والحياة مريرةٌ***وليتك ترضى والأنام غضابُ
إذا صح منك الود فالكل هينٌ***وكل الذي فوق التراب ترابُ
فتكون
الأشواق والأفراح كلها مرتبطة بالله تعالى، فالفرح الحقيقي يكون مرتبطاً
بالله {قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ
هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}
[ يونس: 58 ] ، فعندما يفرح الناس بالعلاوات وزيادة الأموال والأولاد
ويفرحون بالدور والقصور، يفرح المؤمن بسجدة خاشعة في ليلة ساكنة في وقت
سحر
يناجي فيها ربه ويسكب دمعه و يتضرع بدعوة { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ
الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ
} [ السجدة: 16 ] ، هذا الشوق الذي يستولي على القلب عندما يتغلغل فيه
الإيمان فيجعله يتجافى عن دار الغرور وزخرفها وزينتها ويتطلع إلى لقاء
الله.
عندما نعلم ذلك ونحس به لن نستغرب فرحة بلال رضي الله عنه عندما حانت وفاته فردد فرحاً مستبشرا " غداً ألقى الأحبة محمداً وصحبه " .
يتبـــــــــــع